إيران بعد "12 يومًا"- إصلاحات عسكرية، صعود لاريجاني، ومواجهة التهديدات.

أحدثت "حرب الـ 12 يومًا" هزة عميقة في أوساط صناع القرار، والخبراء الاستراتيجيين، وحتى في أذهان الرأي العام الإيراني؛ إذ أماطت اللثام عن نقاط القوة والوهن في الهياكل العسكرية، والأمنية، والسياسية، والاقتصادية للجمهورية الإسلامية، في مجابهة "التهديدات الوجودية" المحدقة.
ومع انحسار ألسنة اللهب الملتهبة مؤقتًا، آثرت القيادة السياسية في طهران إجراء تعديلات جذرية في الهيكليات العليا المعنية باتخاذ القرارات المصيرية، وقيادة العمليات العسكرية والأمنية، وتنفيذ الخطط الاستراتيجية، مستندة في ذلك إلى "المستجدات الطارئة" و"الأخطار المحدقة".
بمعنى أكثر وضوحًا، استشعرت النخبة الحاكمة في طهران قصور التشكيلة القائمة، بكل ما تضمه من مؤسسات مرموقة وشخصيات بارزة، فسارعت الخطى نحو تحديد مكامن الخلل، واتخاذ تدابير تصحيحية تهدف إلى التصدي للموجة التالية من الهجوم المحتمل من جانب إسرائيل أو الولايات المتحدة الأمريكية.
وتتجلى أهمية هذا المسار في حقيقة أن عددًا غير قليل من القادة العسكريين والعلماء النوويين الإيرانيين قد لقوا حتفهم خلال عمليتي: "العرس الدموي"، و"نارنيا" اللتين نفذتهما جهات خارجية معادية.
وقد شكل البيان المكون من سبع مواد، والذي أصدره مرشد الثورة الإسلامية بمناسبة الذكرى السنوية الأربعين لضحايا "حرب الـ 12 يومًا"، أول إشارة رسمية قوية على هذا التوجه؛ حيث وجهه إلى مختلف شرائح المجتمع، والمؤسسة العسكرية العتيدة، والنخب العلمية المرموقة، وأصحاب المنابر والكتاب، والسلطة التنفيذية، وطبقة العلماء الأجلاء، والجيل الشاب الصاعد.
وانطلاقًا من هذا المنطلق، تسعى هذه المقالة إلى إلقاء الضوء على بعض الملامح المميزة للتحولات الجارية على الساحات العسكرية، والأمنية، والسياسية في إيران.
أولاً: بروز قيادات جديدة في الصفوف العسكرية
لقد كان استغلال الكيان الصهيوني لعنصر المفاجأة في حرب الـ 12 يومًا عاملاً حاسمًا في مقتل ثلة من القادة العسكريين البارزين في الساعات الأولى من المواجهة.
ووفقًا للتقديرات الأولية التي قدمتها الأجهزة الأمنية الإيرانية وخبراء العلاقات الدولية، فإن العملية الإرهابية الإسرائيلية قد ارتكزت على توليفة معقدة من "الرصد الدقيق عبر الأقمار الصناعية المتطورة"، و"التنصت الإلكتروني المتقن"، و"الاختراقات البشرية المدروسة"، و"التحليلات الذكية القائمة على الذكاء الاصطناعي".
والملفت للنظر أن جهاز الموساد الإسرائيلي، قبيل الهجوم الذي وقع في الثالث عشر من شهر يونيو/ حزيران، تواصل مع ما يزيد على مائة من كبار القادة والشخصيات الرفيعة المستوى في إيران، وهددهم بالكشف عن معلومات حساسة تتعلق بأماكن إقامتهم وأفراد عائلاتهم، بيد أن تلك المحاولة باءت بالفشل ولم تحقق الأهداف المنشودة.
وقد أكد هذه المعلومة علي لاريجاني، مستشار المرشد وأحد أبرز المرشحين لتولي منصب أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، خلال مقابلة تلفزيونية موسعة.
وفي كمين "العرس الدموي" الغادر، لقيَ عددٌ من كبار القادة العسكريين الإيرانيين مصرعهم، ومن بينهم: محمد باقري رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة، وحسين سلامي قائد الحرس الثوري، وغلام علي رشيد قائد مقر خاتم الأنبياء (المختص بالتخطيط وتنفيذ المشاريع الدفاعية الحيوية)، وأمير علي حاجي زاده قائد القوة الجوفضائية التابعة للحرس الثوري.
وبحسب ما أوردته القناة الثانية عشرة الإسرائيلية، فإن اجتماعًا لكبار قادة القوة الجوفضائية التابعة للحرس الثوري، انعقد في أحد الملاجئ المحصنة تحت الأرض في الساعات الأولى للحرب، قد تعرض لقصف دقيق وموجه، ما أسفر عن مقتل أغلب الحاضرين.
وعقب هذا الحادث الأليم، أصدر آية الله خامنئي، بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة، سلسلة من التعيينات الجديدة الهامة؛ إذ تم تكليف كل من عبدالرحيم موسوي، وعلي شادماني، ومحمد باكبور، وأمير حاتمي، ومجيد موسوي بمناصب قيادية عليا في الأركان العامة، ومقر خاتم الأنبياء، والحرس الثوري، والجيش الوطني، والقوة الجوفضائية للحرس الثوري، على التوالي.
إلا أن القدر لم يمهل علي شادماني طويلاً، حيث اغتالته بعد أيام قليلة من توليه منصبه قوات خاصة تابعة للكيان الصهيوني.
ثانياً: إحياء المجلس الأعلى للدفاع
في العاشر من شهر مايو/ أيار من العام 1980، وعقب عملية "مخلب النسر" (الهجوم الأمريكي الفاشل على صحراء طبس)، تم تأسيس المجلس الأعلى للدفاع رسميًا. وبعد انقضاء خمسة وأربعين عامًا، واستنادًا إلى ما نص عليه الدستور الإيراني في المادة 176، تصاعدت التكهنات بشأن إعادة إحياء هذا المجلس الهام من جديد.
ووفقًا لما نقلته وسائل الإعلام، فإن رئاسة المجلس ستؤول إلى الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وسيضم في عضويته كلاً من رئيس مجلس الشورى، ورئيس السلطة القضائية، وممثلين عن المرشد الأعلى في المجلس الأعلى للأمن القومي، ووزير الاستخبارات، ورئيس هيئة الأركان، وقائدي الجيش والحرس الثوري، وقائد مقر خاتم الأنبياء.
موقع "نور نيوز" الإخباري، المقرب من علي شمخاني، الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للأمن القومي، اعتبر أن إنشاء هذا المجلس يمثل "استجابة جوهرية للمخاطر المعقدة والظروف الاستثنائية التي تمر بها المنطقة"، وذلك بهدف تعزيز التنسيق والتركيز في السياسة الدفاعية للبلاد.
إلا أن التحدي الأبرز الذي يواجه هذا الكيان الجديد يكمن في طبيعة علاقته الهيكلية والتنظيمية مع المجلس الأعلى للأمن القومي. إذ تساور بعض النخب الإيرانية مخاوف جمة من احتمال تعقيد عمليات اتخاذ القرارات الحاسمة، وغياب التنسيق الفعال بين المؤسسات، وذلك بسبب التداخل المحتمل في المهام والاختصاصات، بل واحتمالية حدوث تناقضات جوهرية في القرارات المتخذة.
ولمواجهة هذا التحدي المحتمل، قررت طهران اعتبار المجلس الأعلى للدفاع جزءًا فرعيًا من المجلس الأعلى للأمن القومي، على أن تُعرض قراراته أولاً على المجلس الأعلى للأمن القومي، ثم على المرشد الأعلى للثورة الإسلامية للمصادقة النهائية عليها.
ثالثاً: عودة علي لاريجاني إلى الساحة
بعد أن رفض مجلس صيانة الدستور تأهيل علي لاريجاني، الرئيس الأسبق لمجلس الشورى الإسلامي، للترشح في الانتخابات الرئاسية، اعتقد بعض خصومه السياسيين أن نجم هذا الوجه "الأصولي المعتدل" قد أفل، وأنه خرج نهائيًا من معادلة السلطة في الجمهورية الإسلامية.
بيد أن استئناف المفاوضات غير المباشرة بين طهران وواشنطن، برعاية كريمة من سلطنة عمان، ثم اندلاع حرب الـ 12 يومًا، مهدا الطريق لعودة لاريجاني إلى الواجهة من جديد، وهذه المرة بوصفه "صوت النظام" المعتدل.
وبعد مرور خمسين يومًا على المواجهة العسكرية المباشرة بين طهران وتل أبيب، تتزايد التكهنات والتوقعات بتولي لاريجاني منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي.
وإذا ما تم تعيينه فعليًا، فإن ذلك سيمثل مؤشرًا قاطعًا على "الثقة الخاصة" التي يحظى بها لاريجاني لدى قادة النظام، فضلاً عن الرغبة الجادة للجمهورية الإسلامية في تحسين أدائها في إدارة الصراع المحتمل مع الكيان الصهيوني.
كما أن تولي شخصية ذات وزن كشخصية لاريجاني، الذي يمتلك سجلًا حافلاً في إدارة ملفات حساسة ومعقدة مثل ملف "الاتفاق النووي" و"اتفاق التعاون الاستراتيجي الشامل مع الصين"، قد يعكس مزيجًا فريدًا من الدبلوماسية الرفيعة والخبرة البراغماتية التي تسعى طهران إلى تسخيرها في المرحلة المقبلة.
الاستعداد لمعركة فاصلة
تدل التعيينات الجديدة والإصلاحات الهيكلية، بشقيها العسكري والسياسي، على أن الجمهورية الإسلامية عاكفة على الاستعداد على قدم وساق لمواجهة أكثر فاعلية وكفاءة في مواجهة التحولات المتسارعة التي تشهدها المنطقة.
كما أن تشكيل المجلس الأعلى للدفاع، وعودة لاريجاني بوصفه المرشح الأوفر حظًا لتولي أمانة المجلس الأعلى للأمن القومي، بعد مرور 670 يومًا على السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، يشيران بوضوح إلى تحول ملحوظ في نمط الحكم داخل إيران، وإلى تغليب الرؤية العسكرية-الأمنية في مواجهة النزعة التوسعية للكيان الصهيوني.
وفي ضوء هذه التحولات العميقة، يبدو أن حلفاء طهران التقليديين، مثل الصين وروسيا، قد أصبحوا أكثر تفاؤلاً بشأن إمكانية لعب أدوار حاسمة في مستقبل منطقة غرب آسيا، كما أن دول الخليج العربية قد تجد مساحة أوسع للمناورة والتحرك من أجل احتواء التوتر المتصاعد بين طهران وواشنطن، ومحاولة كبح جماح الحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو.